العثرة الأولى
والجوع يطوي البطون في شهر رمضان المبارك.. طاعة لله وقربة .. آذنت شمس النهار على الرحيل..
اجتمعت العائلة حول مائدة الإفطار العامرة.. وعيون الأبناء تلاحق والدتهم لترى ماذا تحمل من أصناف الطعام وألوان الشراب؟!
لم يبق إلا ثوان.. غسلت الأيدي وشمرت السواعد.. ثم ارتفع صوت المؤذن يعلن رحيل اليوم العاشر من أيام الشهر المباركة.
أسرع الجميع يتسابقون فلا تسمع إلا أصوات الأيدي تلامس الأطباق!!
قطع السكون صوت جرس الباب.. وعلامات الاستفهام في العيون.. من يطرق في مثل هذا الوقت؟!
أسرع أحد الأبناء ممن لم يصم إلا نصف النهار أو أقل.. وسأل: من بالباب؟!
جاء الصوت وقد أضعفه الجوع ولفه الحياء.. أنا فلانة جارتكم!!
هرول مسرعًا إلى أمه ليخبرها.. مفاجأة تجمع أطراف الخوف!!
ماذا أتى بها في هذا الوقت؟! هل حدث مكروه لها أو لأحد أبنائها؟!
تذكرت أن زوجها غائب منذ فترة طويلة!!
فتحت الباب .. ورحبت بالجارة وسألتها.. خيرًا إن شاء الله.. ما بك؟!
طأطأت رأسها وقالت على استحياء: نبحث عن إفطار.. عن طعام!!
أبنائي يتضاغون جوعًا.. وأنا لا أزال صائمة!!
جذبتها إلى الداخل .. تفضلي..
خرج الزوج لصلاة المغرب مع الجماعة وحانت منه التفاتة ليرى منزل جارتهم.. فإذا به لا يفصل بين الجوع والشبع.. والنعمة والفقر.. سوى جدار واحد.. ثم سأل نفسه: هذه جارتنا لم تأت إلا من حاجة.. كيف لا نتفقدها؟! لم نسأل عنها؟! لم نزرها؟!
سأل نفسه: لماذا لم تطرق سوى بابنا؟! هل لأننا أقرب البيوت لبيتها؟! أم لأننا من بلد آخر وتخشى أن يعرف قومها وأهلها ما بها من الحاجة والعوز؟!
أختي..
هناك كثير مثل هذه الأسرة.. بيوت متعففة لا يعلم من أين تأكل وتشرب؟
ألا نخاف من العقوبة الإلهية ونحن ننام وجارنا المسلم جائع وقريبنا مهموم وأختنا في أمس الحاجة؟!
حدثني قريب لنا ذهب لإجراء بحث في إحدى الجمعيات الخيرية أنه وجد أسماء عوائل معروفة يأخذ أبناء عمومتهم وأقاربهم الصدقات والتبرعات من الجمعية.. وذكر اسم أكثر من عائلة يكفي ما لدى أغنيائهم من زكاة عام واحد أن تعف أسر أقاربهم طوال حياتهم.
أختي المسلمة:
والمادة تضرب بسهامها في قلوبنا نخشى أن يتحول مجتمعنا المسلم إلى مجتمع مادي لا يعرف الأخ أخاه، ولا القريب قريبه.. ولا الجار جاره.
إذا لم نبحث عنهم ونعرفهم في وقت الشدة والكربة فمتى نبحث عنهم؟!
إذا ابتسمت لهم الدنيا وأرسل الله لهم الخيرات؟! آنذاك نعرفهم!!
لا يا أخية: حولك أيتام.. وقربك أرامل.. وتحت عينيك محتاجين.
تفقدي أمرهم وسدي حاجتهم.. ربما بدعوة منهم لا تشقين أبدًا.
ما بعد العثرة:
قال شقيق بن إبراهيم: بينما نحن ذات يوم عند إبراهيم بن أدهم إذ مر رجل فقال إبراهيم: أليس هذا فلان؟
فقيل: نعم، فقال لرجل أدركه، فقل له: قال لك إبراهيم لم لم تسلم؟
فقال له، فقال: والله إن امرأتي وضعت وليس عندي شيء، فخرجت شبه المجنون، قال: فرجعت إلى إبراهيم فقلت له، فقال: إنا لله.. كيف غفلنا عن صاحبنا حتى نزل به هذا الأمر؟
وقال: يا فلان ائت صاحب البستان فتسلف منه دينارين فادخل السوق فاشتر له ما يصلحه بدينار وادفع الدينار الآخر إليه، فدخلت السوق فأوقرت([1]) بدينار من كل شيء وتوجهت إليه فدققت الباب، فقالت امرأته: من هذا؟ قلت: أنا أردت فلانًا، فقالت: ليس هو هاهنا، قلت: فمري بفتح الباب وتنحي.
قال: ففتحت الباب، فأدخلنا ما على البعير وألقيته في صحن الدار وناولتها الدينار، فقالت: على يدي من بعث هذا؟ فقلت: قولي على يد أخيك إبراهيم بن أدهم، فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم. [صفة الصفوة: 4/155].
من كتاب عثرات على الطريق لعبد الملك القاسم